فصل: الآية رقم ‏(‏144‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏144‏)‏

‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين‏}‏

‏"‏روى أنها نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان‏:‏ قد قتل محمد‏.‏ قال عطية العوفي‏:‏ فقال بعض الناس‏:‏ قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به؛ فأنزل الله تعالى في ذلك ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل‏{‏ إلى قوله‏{‏فآتاهم الله ثواب الدنيا‏}‏آل عمران‏:‏ 148‏]‏‏.‏ وما نافية، وما بعدها ابتداء وخبر، وبطل عمل ‏{‏ما‏{‏‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏قد خلت من قبله رسل‏{‏ بغير ألف ولام‏.‏ فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبدا، وأنه يجب التمسك بما أتت به الرسل وإن فقد الرسول بموت أو قتل‏.‏ وأكرم نبيه صلى الله عليه وسلم وصفيه باسمين مشتقين من اسمه‏:‏ محمد وأحمد، تقول العرب‏:‏ رجل محمود ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة، قال الشاعر‏:‏

إلى الماجد القَرْمِ الجواد المحمد

وقد مضى هذا في الفاتحة‏.‏ وقال عباس بن مرداس‏:‏

يا خاتم النُّبآء إنك مرسل بالخير كل هدى السبيل هداكا

إن الإله بنى عليك محبة في خلقه ومحمدا سماكا

فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لا تدرأ الموت، والأديان لا تزول بموت الأنبياء‏.‏ والله أعلم‏.‏

هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه في ‏{‏البقرة‏{‏ فظهرت عنده شجاعته وعلمه‏.‏ قال الناس‏:‏ لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُّنْه، الحديث؛ كذا في البخاري‏.‏ وفي سنن ابن ماجه عن عائشة قالت‏:‏ لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عند امرأته ابنة خارجة بالعوالي، فجعلوا يقولون‏:‏ لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي‏.‏ فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال‏:‏ أنت أكرم على الله من أن يميتك‏!‏ مرتين‏.‏ قد والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر في ناحية المسجد يقول‏:‏ والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم‏.‏ فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال‏:‏ من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ‏{‏وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين‏{‏‏.‏ قال عمر‏{‏فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ‏{‏‏.‏ ورجع عن مقالته التي قالها فيما ذكر الوائلي أبو نصر عبيدالله في كتابه الإبانة‏:‏ عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد قبل أبي بكر فقال‏:‏ أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا - يريد أن يقول حتى يكون آخرنا موتا - فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الوائلي أبو نصر‏:‏ المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي ‏{‏أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم‏{‏ وكان قال ذلك لعظيم ما ورد عليه، وخشي الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد قوة يقين الصديق الأكبر أبي بكر، وتفوهه بقول الله عز وجل‏{‏كل نفس ذائقة الموت‏}‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏ وقوله‏{‏إنك ميت وإنهم ميتون‏}‏الزمر‏:‏ 30‏]‏ وما قاله ذلك اليوم - تنبه وتثبت وقال‏:‏ كأني لم أسمع بالآية إلا من أبي بكر‏.‏ وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم‏.‏ ومات صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بلا اختلاف، في وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتد الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل ليلة الأربعاء‏.‏ وقالت صفية بنت عبدالمطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

ألا يا رسول الله كنت رجاءنا وكنت بنا برا ولم تك جافيا

وكنت رحيما هاديا ومعلما ليَبْك عليك اليوم من كان باكيا

لعمرك ما أبكي النبي لفقده ولكن لما أخشى من الهرْج آتيا

كأن على قلبي لذكر محمد وما خفت من بعد النبي المكاويا

أفاطم صلى الله رب محمد على جدث أمسى بيثرب ثاويا

فدى لرسول الله أمي وخالتي وعمي وآبائي ونفسي وماليا

صدقت وبلغت الرسالة صادقا ومت صليب العود أبلج صافيا

فلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا، ولكن أمره كان ماضيا

عليك من الله السلام تحية وأدخلت جنات من العدن راضيا

أرى حسنا أيتمته وتركته يبكِّي ويدعو جده اليوم ناعيا

فلِم أُخِّر دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لأهل بيت أخروا دفن ميتهم‏:‏ ‏(‏عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخروها‏)‏‏.‏ فالجواب من ثلاثة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ ما ذكرناه من عدم اتفاقهم على موته‏.‏ الثاني‏:‏ لأنهم لا يعلمون حيث يدفنونه‏.‏ قال قوم في البقيع، وقال آخرون في المسجد، وقال قوم‏:‏ يحبس حتى يحمل إلى أبيه إبراهيم‏.‏ حتى قال العالم الأكبر‏:‏ سمعته يقول‏:‏ ‏(‏ما دفن نبي إلا حيث يموت‏)‏ ذكره ابن ماجه والموطأ وغيرهما‏.‏ الثالث‏:‏ إنهم اشتغلوا بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة، فنظروا فيها حتى استتب الأمر وانتظم الشمل واستوثقت الحال، واستقرت الخلافة في نصابها فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه من الغد بيعة أخرى عن ملأ منهم ورضا؛ فكشف الله به الكربة من أهل الردة، وقام به الدّين، والحمد لله رب العالمين‏.‏ ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظروا في دفنه وغسلوه وكفنوه‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلف هل صلي عليه أم لا، فمنهم من قال‏:‏ لم يصل عليه أحد، وإنما وقف كل واحد يدعو، لأنه كان أشرف من أن يصلى عليه‏.‏ وقال ابن العربي‏:‏ وهذا كلام ضعيف؛ لأن السنة تقام بالصلاة عليه في الجنازة، كما تقام بالصلاة عليه في الدعاء، فيقول‏:‏ اللهم صل على محمد إلى يوم القيامة، وذلك منفعة لنا‏.‏ وقيل‏:‏ لم يصل عليه؛ لأنه لم يكن هناك إمام‏.‏ وهذا ضعيف لأن الذي كان يقيم بهم الصلاة الفريضة هو الذي كان يؤم بهم في الصلاة‏.‏ وقيل‏:‏ صلى عليه الناس أفذاذا؛ لأنه كان آخر العهد به، فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مخصوصا دون أن يكون فيها تابعا لغيره‏.‏ والله أعلم بصحة ذلك‏.‏

قلت‏:‏ قد خرج ابن ماجه بإسناد حسن بل صحيح من حديث ابن عباس وفيه‏:‏ فلما‏.‏ فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد‏.‏ خرجه عن نصر بن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق‏.‏ قال حدثني حسين بن عبدالله عن عكرمة عن ابن عباس، الحديث بطوله‏.‏

في تغيير الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، عن أنس قال‏:‏ لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا‏.‏ أخرجه ابن ماجه، وقال‏:‏ حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال‏:‏ كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن ينزل فينا القرآن، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمنا‏.‏ وأسند عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت‏:‏ كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام المصلي يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفى أبو بكر وكان عمر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة فتلفت الناس في الصلاة يمينا وشمالا‏.‏

قوله تعالى‏{‏أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم‏{‏ ‏{‏أفإن مات‏{‏ شرط ‏{‏أو قتل‏{‏ عطف عليه، والجواب ‏{‏انقلبتم‏{‏‏.‏ ودخل حرف الاستفهام على حرف الجزاء لأن الشرط قد انعقد به وصار جملة واحدة وخبرا واحدا‏.‏ والمعنى‏:‏ أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل‏؟‏ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء؛ فإنه في غير موضعه، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط‏.‏ وقوله ‏{‏انقلبتم على أعقابكم‏{‏ تمثيل، ومعناه ارتددتم كفارا بعد إيمانكم، قاله قتادة وغيره‏.‏ ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه‏:‏ انقلب على عقبيه‏.‏ ومنه ‏{‏نكص على عقبيه‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالانقلاب هنا الانهزام، فهو حقيقة لا مجاز‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فعلتم فعل المرتدين وإن لم تكن ردة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا‏{‏ بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة، والله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية لغناه‏.‏ ‏{‏وسيجزي الله الشاكرين‏{‏، أي الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا‏.‏ وجاء ‏{‏وسيجزي الله الشاكرين‏{‏ بعد قوله‏{‏فلن يضر الله شيئا‏{‏ فهو اتصال وعد بوعيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏145‏)‏

‏{‏وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا‏{‏ هذا حض على الجهاد، وإعلام أن الموت لا بد منه وأن كل إنسان مقتول أو غير مقتول ميت إذا بلغ أجله المكتوب له؛ لأن معنى ‏{‏مؤجلا‏{‏ إلى أجل‏.‏ ومعنى ‏{‏بإذن الله‏{‏ بقضاء الله وقدره‏.‏ و‏{‏كتابا‏{‏ نصب على المصدر، أي كتب الله كتابا مؤجلا‏.‏ وأجل الموت هو الوقت الذي في معلومه سبحانه، أن روح الحي تفارق جسده، ومتى قتل العبد علمنا أن ذلك أجله‏.‏ ولا يصح أن يقال‏:‏ لو لم يقتل لعاش‏.‏ والدليل على قوله‏{‏كتابا مؤجلا‏{‏ ‏{‏إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ ‏{‏إن أجل الله لآت‏}‏العنكبوت‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏الرعد‏:‏ 38‏]‏‏.‏ والمعتزلي يقول‏:‏ يتقدم الأجل ويتأخر، وإن من قتل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله؛ لأنه يجب على القاتل الضمان والدية‏.‏ وقد بين الله تعالى في هذه الآية أنه لا تهلك نفس قبل أجلها‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في ‏{‏الأعراف‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وفيه دليل على كتب العلم وتدوينه‏.‏ وسيأتي بيانه في ‏{‏طه‏{‏ عند قوله‏.‏ ‏{‏قال علمها عند ربي في كتاب‏}‏طه‏:‏ 52‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها‏{‏ يعني الغنيمة‏.‏ نزلت في الذين تركوا المركز طلبا للغنيمة‏.‏ وقيل‏:‏ هي عامة في كل من أراد الدنيا دون الآخرة؛ والمعنى نؤته منها ما قسم له‏.‏ وفي التنزيل‏{‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏}‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ‏{‏ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها‏{‏ أي نؤته جزاء عمله، على ما وصف الله تعالى من تضعيف الحسنات لمن يشاء‏.‏ وقيل‏:‏ لمراد منها عبدالله بن جبير ومن لزم المركز معه حتى قتلوا‏.‏ ‏{‏وسنجزي الشاكرين‏{‏ أي نؤتيهم الثواب الأبدي جزاء لهم على ترك الانهزام، فهو تأكيد لما تقدم من إيتاء مزيد الآخرة‏.‏ وقيل‏{‏وسنجزي الشاكرين‏{‏ من الرزق في الدنيا لئلا يتوهم أن الشاكر يحرم ما قسم له مما يناله الكافر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏146‏:‏ 147‏)‏

‏{‏وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكأين من نبي قُتِل معه ربيون كثير‏{‏ قال الزهري‏:‏ صاح الشيطان يوم أحد‏:‏ قتل محمد؛ فانهزم جماعة من المسلمين‏.‏ قال كعب بن مالك‏:‏ فكنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت عينيه من تحت المغفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي‏:‏ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلي أن أسكت، فأنزل الله عز وجل‏{‏وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا‏{‏ الآية‏.‏ و‏{‏كأين‏{‏ بمعنى كم‏.‏ قال الخليل وسيبويه‏:‏ هي أي دخلت عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى وكم وصورت في المصحف نونا؛ لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغير معناها، ثم كثر استعمالها فتلعبت بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف، فحصل فيها لغات أربع قرئ بها‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏وكائن‏{‏ مثل وكاعن، على وزن فاعل، وأصله كيء فقلبت الياء ألفا، كما قلبت في ييأس فقيل ياءَسُ؛ قال الشاعر‏:‏

وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصبت هو المصابا

وقال آخر‏:‏

وكائن رددنا عنكم من مدجج يجيء أمام الركب يردي مقنعا

وقال آخر‏:‏

وكائن في المعاشر من أناس أخوهم فوقهم وهم كرام

وقرأ ابن محيصن ‏{‏وكَئِنْ‏{‏ مهموزا مقصورا مثل وكَعِن، وهو من كائن حذفت ألفه‏.‏ وعنه أيضا ‏{‏وكأْيِن‏{‏ مثل وكَعْيِن وهو مقلوب كيء المخفف‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏كأَيِّنْ‏{‏ بالتشديد مثل كعين وهو الأصل، قال الشاعر‏:‏

كأين من أناس لم يزالوا أخوهم فوقهم وهم كرام

وقال آخر‏:‏

كأين من عدو بعزنا وكائِنْ أجَرْنا من ضعيف وخائف

فجمع بين لغتين‏:‏ كأَيِّنْ وكائِنْ، ولغة خامسة كَيْئِن مثل كيعن، وكأنه مخفف من كيِّىء مقلوب كأيِّن‏.‏ ولم يذكر الجوهري غير لغتين‏:‏ كائن مثل كاعن، وكأَيِّن مثل كعين؛ تقول كأين رجلا لقيت؛ بنصب ما بعد كأين على التمييز‏.‏ وتقول أيضا‏:‏ كأين من رجل لقيت؛ وإدخال من بعد كأين أكثر من النصب بها وأجود‏.‏ وبكأين تبيع هذا الثوب ‏؟‏ أي بكم تبيع؛ قال ذو الرمة‏:‏

وكائن ذعرنا من مهاة ورامح بلاد العدا ليست له ببلاد

قال النحاس‏:‏ ووقف أبو عمرو ‏{‏وكأي‏{‏ بغير نون؛ لأنه تنوين‏.‏ وروى ذلك سَوْرَة بن المبارك عن الكسائي‏.‏ ووقف الباقون بالنون اتباعا لخط المصحف‏.‏ ومعنى الآية تشجيع المؤمنين، والأمر بالاقتداء بمن تقدم من خيار أتباع الأنبياء؛ أي كثير من الأنبياء قتل معه ربيون كثير، أو كثير من الأنبياء قتلوا فما ارتد أممهم؛ قولان‏:‏ الأول للحسن وسعيد بن جبير‏.‏ قال الحسن‏:‏ ما قتل نبي في حرب قط‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ ما سمعنا أن نبيا قتل في القتال‏.‏ والثاني عن قتادة وعكرمة‏.‏ والوقف - على هذا القول - على ‏{‏قتل‏{‏ جائز، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب‏.‏ وهي قراءة ابن عباس واختارها أبو حاتم‏.‏ وفيه وجهان‏:‏ أحدهما أن يكون ‏{‏قتل‏{‏ واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله ‏{‏قتل‏{‏ ويكون في الكلام إضمار، أي ومعه ربيون كثير؛ كما يقال‏:‏ قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه جيش‏.‏ وخرجت معي تجارة؛ أي ومعي‏.‏ الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبي ومن معه من الربيين، ويكون وجه الكلام قتل بعض من كان معه؛ تقول العرب‏:‏ قتلنا بني تميم وبني سليم، وإنما قتلنا بعضهم‏.‏ ويكون قوله ‏{‏فما وهنوا‏{‏ راجعا إلى من بقي منهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل، وقتل معه جماعة من أصحابه‏.‏ وقرأ الكوفيون وابن عامر ‏{‏قاتل‏{‏ وهي قراءة ابن مسعود؛ واختارها أبو عبيد وقال‏.‏ إن الله إذا حمد من قاتل كان من قُتِل داخلا فيه، وإذا حمد من قُتِل لم يدخل فيه غيرهم؛ فقاتل أعم وأمدح‏.‏ و‏{‏الربيون‏{‏ بكسر الراء قراءة الجمهور‏.‏ وقراءة علي رضي الله عنه بضمها‏.‏ وابن عباس بفتحها؛ ثلاث لغات‏.‏ والربيون الجماعات الكثيرة؛ عن مجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة، واحدهم رُبِّيَ بضم الراء وكسرها؛ منسوب إلى الربة بكسر الراء أيضا وضمها، وهي الجماعة‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ الربيون الألوف الكثيرة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الربيون الأتباع‏.‏ والأول أعرف في اللغة؛ ومنه يقال للخرقة التي تجمع فيها القداح‏:‏ رِبّة ورُبّة‏.‏ والرِّباب قبائل تجمعت‏.‏ وقال أبان بن ثعلب‏:‏ الرِّبي عشرة آلاف‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هم العلماء الصُّبُر‏.‏ ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي‏:‏ الجمع الكثير؛ قال حسان‏:‏

وإذا معشر تجافوا عن الحـ ـق حملنا عليهم ربيا

وقال الزجاج‏:‏ ها هنا قراءتان ‏{‏رُبِّيُّون‏{‏ بضم الراء ‏{‏ورِبِّيُّون‏{‏ بكسر الراء؛ أما الربيون ‏(‏بالضم‏)‏‏:‏ الجماعات الكثيرة‏.‏ ويقال‏:‏ عشرة آلاف‏.‏

قلت‏:‏ وقد روي عن ابن عباس ‏{‏رَبِّيُّون‏{‏ بفتح الراء منسوب إلى الرب‏.‏ قال الخليل‏:‏ الرِّبِّي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء‏.‏ وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية لله تعالى‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله‏{‏ ‏{‏وهنوا‏{‏ أي ضعفوا، وقد تقدم‏.‏ والوهن‏:‏ انكسار الجد بالخوف‏.‏ وقرأ الحسن وأبو السمال ‏{‏وهنوا‏{‏ بكسر الهاء وضمها، لغتان عن أبي زيد‏.‏ وهن الشيء يهن وهنا‏.‏ وأوهنته أنا ووهنته ضعفته‏.‏ والواهنة‏:‏ أسفل الأضلاع وقصارها‏.‏ والوَهَن من الإبل‏:‏ الكثيف‏.‏ والوَهْن‏:‏ ساعة تمضي من الليل، وكذلك الموهن‏.‏ وأوهنا صرنا في تلك الساعة؛ أي ما وهنوا لقتل نبيهم، أو لقتل من قُتِل منهم، أي ما وهن باقيهم؛ فحذف المضاف‏.‏ ‏{‏وما ضعفوا‏{‏ أي عن عدوهم‏.‏ ‏{‏وما استكانوا‏{‏ أي لما أصابهم في الجهاد‏.‏ والاستكانة‏:‏ الذلة والخضوع؛ وأصلها ‏{‏اسْتَكَنوا‏{‏ على افتعلوا؛ فأشبعت فتحة الكاف فتولدت منها ألف‏.‏ ومن جعلها من الكون فهي استفعلوا؛ والأول أشبه بمعنى الآية‏.‏ وقرئ ‏{‏فما وهنوا وما ضَعْفوا‏{‏ بإسكان الهاء والعين‏.‏ وحكى الكسائي ‏{‏ضعفوا‏{‏ بفتح العين‏.‏ ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قُتل منهم أو قتل نبيهم بأنهم صبروا ولم يفروا ووطنوا أنفسهم على الموت، واستغفروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رزقوا الشهادة، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا، وبالنصر على أعدائهم‏.‏ وخصوا الأقدام بالثبات دون غيرها من الجوارح لأن الاعتماد عليها‏.‏ يقول‏:‏ فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد ‏؟‏ فأجاب دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها‏.‏ وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه، الثابتين عند لقاء عدوه بوعده الحق، وقوله الصدق‏.‏ ‏{‏والله يحب الصابرين‏{‏ يعني الصابرين على الجهاد‏.‏ وقرأ بعضهم ‏{‏وما كان قولهم‏{‏ بالرفع؛ جعل القول اسما لكان؛ فيكون معناه وما كان قولُهم إلا قولَهم‏{‏ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏{‏ ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان‏.‏ واسمها ‏{‏إلا أن قالوا‏{‏‏.‏ ‏{‏ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏{‏ يعني الصغائر ‏{‏وإسرافنا‏{‏ يعني الكبائر‏.‏ والإسراف‏:‏ الإفراط في الشيء ومجاوزة الحد‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء ‏(‏اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويدع ما سواه، ولا يقول أختار كذا؛ فإن الله تعالى قد اختار لنبيه وأوليائه وعلمهم كيف يدعون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏148‏)‏

‏{‏فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فآتاهم الله‏{‏ أي أعطاهم ‏{‏ثواب الدنيا‏{‏، يعني النصر والظفر على عدوهم‏.‏ ‏{‏وحسن ثواب الآخرة‏{‏ يعني الجنة‏.‏ وقرأ الجحدري ‏{‏فأثابهم الله‏{‏ من الثواب‏.‏ ‏{‏والله يحب المحسنين‏{‏ تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏149 ‏:‏150 ‏)‏

{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين، بل الله مولاكم وهو خير الناصرين‏}‏

لما أمر الله تعالى بالاقتداء بمن تقدم من أنصار الأنبياء حذر طاعة الكافرين؛ يعني مشركي العرب‏:‏ أبا سفيان وأصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ اليهود والنصارى‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة‏:‏ ارجعوا إلى دين آبائكم‏.‏ ‏{‏يردوكم على أعقابكم‏{‏

أي إلى الكفر‏.‏ ‏{‏فتنقلبوا خاسرين‏{‏ أي فترجعوا مغبونين‏.‏ ثم قال‏{‏بل الله مولاكم‏{‏ أي متولي نصركم وحفظكم إن أطعتموه‏.‏ وقرئ ‏{‏بل الله‏{‏ بالنصب، على تقدير بل وأطيعوا الله مولاكم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏151‏)‏

‏{‏سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين‏}‏

نظيره ‏{‏وقذف في قلوبهم الرعب‏{‏‏.‏ وقرأ ابن عامر والكسائي ‏{‏الرعب‏{‏ بضم العين؛ وهما لغتان‏.‏ والرعب‏:‏ الخوف؛ يقال‏:‏ رَعَبْته رُعْبا ورُعُبا، فهو مرعوب‏.‏ ويجوز أن يكون الرعْب مصدرا، والرُّعُب الاسم‏.‏ وأصله من الملء؛ يقال سيل راعب يملأ الوادي‏.‏ ورعبت الحوض ملأته‏.‏ والمعنى‏:‏ سنملأ قلوب المشركين خوفا وفزعا‏.‏ وقرأ السختياني ‏{‏سَيُلْقي‏{‏ بالياء، والباقون بنون العظمة‏.‏ قال السدي وغيره‏:‏ لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ندموا وقالوا‏:‏ بئس ما صنعنا ‏!‏ قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم؛ فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به‏.‏ والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام؛ قال الله تعالى‏{‏وألقى الألواح‏}‏الأعراف‏:‏ 150‏]‏ ‏{‏فألقوا حبالهم وعصيهم‏}‏الشعراء‏:‏ 44‏]‏ ‏{‏فألقى عصاه‏}‏الأعراف‏:‏ 107‏]‏‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فألقت عصاها واستقر بها النوى

ثم قد يستعمل مجازا كما في هذه الآية، وقوله‏{‏وألقيت عليك محبة مني‏}‏طه‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وألقى عليك مسألة‏.‏

قوله تعالى‏{‏بما أشركوا بالله‏{‏ تعليل؛ أي كان سبب إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم؛ فما للمصدر‏.‏ وبقال أشرك به أي عدل به غيره ليجعله شريكا‏.‏ ‏{‏ما لم ينزل به سلطانا‏{‏ حجة وبيانا، وعذرا وبرهانا؛ ومن هذا قيل للوالي سلطان؛ لأنه حجة الله عز وجل في الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ إنه مأخوذ من السليط وهو ما يضاء به السراج، وهو دهن السمسم؛ قال امرؤ القيس‏:‏

أمال السليط بالذُّبال المفتل

فالسلطان يستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل‏.‏ وقيل السليط الحديد‏.‏ والسلاطة الحدة‏.‏ والسلاطة من التسليط وهو القهر؛ والسلطان من ذلك، فالنون زائدة‏.‏ فأصل السلطان القوة، فإنه يقهر بها كما يقهر بالسلطان‏.‏ والسليطة المرأة الصخابة‏.‏ والسليط الرجل الفصيح اللسان‏.‏ ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الأوثان في شيء من الِملل‏.‏ ولم يدل عقل على جواز ذلك‏.‏ ثم أخبر الله تعالى عن مصيرهم ومرجعهم فقال‏{‏ومأواهم النار‏{‏ ثم ذمه فقال‏{‏وبئس مثوى الظالمين‏{‏ والمثوى‏:‏ المكان الذي يقام فيه؛ يقال‏:‏ ثَوَى يَثْوي ثَواء‏.‏ والمأوى‏:‏ كل مكان يرجع إليه شيء ليلا أو نهارا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏152‏)‏

‏{‏ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين‏}‏

قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض‏:‏ من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ‏!‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء، وكان الظفر ابتداء للمسلمين غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة، وترك بعض الرماة أيضا مركزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة‏.‏‏"‏روى البخاري عن البراء بن عازب قال‏:‏ لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير وقال لهم‏:‏ ‏(‏لا تبرحوا من مكانكم إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا عليهم‏)‏ قال‏:‏ فلما التقى القوم وهزمهم المسلمون حتى نظرنا إلى النساء يشتددن في الجبل، وقد رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن فجعلوا يقولون‏:‏ الغنيمة الغنيمة‏.‏ فقال لهم عبدالله‏:‏ أمهلوا ‏!‏ أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا، فانطلقوا فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا‏.‏ ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف علينا وهو في نشز فقال‏:‏ أفي القوم محمد ‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏ حتى قالها ثلاثا‏.‏ ثم قال‏:‏ أفي القوم ابن أبي قحافة ‏؟‏ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏ ثم قال‏:‏ أفي القوم عمر بن الخطاب ‏؟‏ ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏ ثم التفت إلى أصحابه فقال‏:‏ أما هؤلاء فقد قتلوا‏.‏ فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه دون أن قال‏:‏ كذبت يا عدو الله ‏!‏ قد أبقى الله لك من يخزيك به‏.‏ فقال‏:‏ اعْلُ هُبَل؛ مرتين‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أجيبوه‏)‏ فقالوا‏:‏ ما نقول يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏قولوا الله أعلى وأجل‏)‏‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ لنا العزى ولا عزى لكم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏(‏أجيبوه‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ ما نقول يا رسول الله ‏؟‏ قال‏:‏ قولوا ‏(‏الله مولانا ولا مولى لكم‏)‏‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني‏.‏ وفي البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال‏.‏ وفي رواية عن سعد‏:‏ عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد‏.‏ يعني جبريل وميكائيل‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ يقاتلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده‏.‏ وعن مجاهد قال‏:‏ لم تقاتل الملائكة معهم يومئذ، ولا قبله ولا بعده إلا يوم بدر‏.‏ قال البيهقي‏:‏ إنما أراد مجاهد أنهم لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم حين عصوا الرسول ولم يصبروا على ما أمرهم به‏.‏ وعن عروة بن الزبير قال‏:‏ وكان الله عز وجل وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين‏:‏ وكان قد فعل؛ فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركوا الرماة عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ألا يبرحوا من منازلهم، وأرادوا الدنيا، رفع عنهم مدد الملائكة، وأنزل الله تعالى‏{‏ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه‏}‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ فصدق الله وعده وأراهم الفتح، فلما عصوا أعقبهم البلاء‏.‏ وعن عمير بن إسحاق قال‏:‏ لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد يرمي بين يديه، وفتى ينبل له، كلما ذهبت نبلة أتاه بها‏.‏ قال ارم أبا إسحاق‏.‏ فلما فرغوا نظروا من الشاب ‏؟‏ فلم يروه ولم يعرفوه‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ ولما قتل صاحب لواء المشركين وسقط لواؤهم، رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية؛ وفي ذلك يقول حسان‏:‏

فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب

و ‏{‏تحسونهم‏{‏ معناه تقتلونهم وتستأصلونهم؛ قال الشاعر‏:‏

حسَسْناهم بالسيف حسا فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبددوا

وقال جرير‏:‏

تحسهم السيوف كما تسامى حريق النار في الأجم الحصيد

قال أبو عبيد‏:‏ الحَسُّ الاستئصال بالقتل؛ يقال‏:‏ جراد محسوس إذا قتله البرد‏.‏ والبرد محسة للنبت‏.‏ أي محرقة له ذاهبة به‏.‏ وسنة حسوس أي جدبة تأكل كل شيء؛ قال رؤبة‏:‏

إذا شكونا سنة حسوسا تأكل بعد الأخضر اليبيسا

وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة‏.‏ فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل‏.‏ ‏{‏بإذنه‏{‏ بعلمه، أو بقضائه وأمره‏.‏ ‏{‏حتى إذا فشلتم‏{‏ أي جبنتم وضعفتم‏.‏ يقال فشل يفشل فهو فشِل وفشْل‏.‏ وجواب ‏{‏حتى‏{‏ محذوف، أي حتى إذا فشلتم امتحنتم‏.‏ ومثل هذا جائز كقوله‏{‏فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء‏}‏الأنعام‏:‏ 35‏]‏ فافعل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ جواب ‏{‏حتى‏{‏، ‏{‏وتنازعتم‏{‏ والواو مقحمة زائدة؛ كقوله ‏{‏فلما أسلما وتله للجبين‏.‏ وناديناه‏}‏الصافات‏:‏ 103 - 104‏]‏ أي ناديناه‏.‏ وقال امرؤ القيس‏:‏

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

أي انتحى‏.‏ وعند هؤلاء يجوز إقحام الواو من ‏{‏وعصيتم‏{‏‏.‏ أي حتى إذا فشلتم وتنازعتم عصيتم‏.‏ وعلى هذا فيه تقديم وتأخير، أي حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ يجوز أن يكون الجواب ‏{‏صرفكم عنهم‏{‏، و‏{‏ثم‏{‏ زائدة، والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم وقد أنشد بعض النحويين في زيادتها قول الشاعر‏:‏

أراني إذا ما بِتُّ بِتّ على هوى فثُمّ إذا أصبحت أصبحت عاديا

وجوز الأخفش أن تكون زائدة؛ كما في قوله تعالى‏{‏حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم‏}‏التوبة‏:‏ 118‏]‏‏.‏ وقيل‏{‏حتى‏{‏ بمعنى ‏{‏إلى‏{‏ وحينئذ لا جواب له، أي صدقكم الله وعده إلى أن فشلتم، أي كان ذلك الوعد بشرط الثبات‏.‏ ومعنى ‏{‏تنازعتم‏{‏ اختلفتم؛ يعني الرماة حين قال بعضهم لبعض‏:‏ نلحق الغنائم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل نثبت في مكاننا الذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه‏.‏ ‏{‏وعصيتم‏{‏ أي خالفتم أمر الرسول في الثبوت‏.‏ ‏{‏من بعد ما أراكم ما تحبون‏{‏ يعني من الغلبة التي كانت للمسلمين يوم أحد أول أمرهم؛ وذلك حين صرع صاحب لواء المشركين على ما تقدم، وذلك أنه لما صرع انتشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصاروا كتائب متفرقة فحاسوا العدو ضربا حتى أجهضوهم عن أثقالهم‏.‏ وحملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة، وحمل المسلمون فنهكوهم قتلا‏.‏ فلما أبصر الرماة الخمسون أن الله عز وجل قد فتح لإخوانهم قالوا‏:‏ والله ما نجلس ههنا لشيء، قد أهلك الله العدو وإخواننا في عسكر المشركين‏.‏ وقال طوائف منهم‏:‏ علام نقف وقد هزم الله العدو ‏؟‏ فتركوا منازلهم التي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتركوها، وتنازعوا وفشلوا وعصوا الرسول فأوجفت الخيل فيهم قتلا‏.‏ وألفاظ الآية تقتضي التوبيخ لهم، ووجه التوبيخ لهم أنهم رأوا مبادئ النصر، فكان الواجب أن يعلموا أن تمام النصر في الثبات لا في الانهزام‏.‏ ثم بين سبب التنازع‏.‏ فقال‏{‏منكم من يريد الدنيا‏{‏ يعني الغنيمة‏.‏ قال ابن مسعود‏:‏ ما شعرنا أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد‏.‏ ‏{‏ومنكم من يريد الآخرة‏{‏ وهم الذين ثبتوا في مركزهم، ولم يخالفوا أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم مع أميرهم عبدالله بن جبير؛ فحمل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل عليه، وكانا يومئذ كافرين فقتلوه مع من بقي، رحمهم الله‏.‏ والعتاب مع من انهزم لا مع من ثبت، فإن من ثبت فاز بالثواب، وهذا كما أنه إذا حل بقوم عقوبة عامة فأهل الصلاح والصبيان يهلكون؛ ولكن لا يكون ما حل بهم عقوبة، بل هو سبب المثوبة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم صرفكم عنهم ليبتليكم‏{‏ أي بعد أن استوليتم عليهم ردكم عنهم بالانهزام‏.‏ ودل هذا على أن المعصية مخلوقة لله تعالى‏.‏ وقالت المعتزلة‏:‏ المعنى ثم انصرفتم؛ فإضافته إلى الله تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين من المسلمين ابتلاء لهم‏.‏ قال القشيري‏:‏ وهذا لا يغنيهم؛ لأن إخراج الرعب من قلوب الكافرين حتى يستخفوا بالمسلمين قبيح ولا يجوز عندهم، أن يقع من الله قبيح، فلا يبقى لقوله‏{‏ثم صرفكم عنهم‏{‏ معنى‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏صرفكم عنهم‏{‏ أي لم يكلفكم طلبهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين‏{‏ أي لم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة‏.‏ والخطاب قيل هو للجميع‏.‏ وقيل‏:‏ هو للرماة الذين خالفوا ما أمروا به، واختاره النحاس‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ ونظير هذه الآية قوله‏{‏ثم عفونا عنكم‏}‏البقرة‏:‏ 52‏]‏‏.‏ ‏{‏والله ذو فضل على المؤمنين‏{‏ بالعفو والمغفرة‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصر يوم أحد، قال‏:‏ وأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس‏:‏ بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد‏{‏ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه - يقول ابن عباس‏:‏ والحَس القتل - حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين‏{‏ وإنما عنى بهذا الرماة‏.‏ وذلك أن النبّي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ثم قال‏:‏ ‏(‏احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا‏)‏‏.‏ فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعا فدخلوا في العسكر ينتهبون، وقد التقت صفوف أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم، فهم هكذا - وشبك أصابع يديه - والتبسوا‏.‏ فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا، وقتل من المسلمين ناس كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة، وجال المسلمون نحو الجبل، ولم يبلغوا حيث يقول الناس‏:‏ الغار، إنما كانوا تحت المهراس وصاح الشيطان‏:‏ قتل محمد‏.‏ فلم يشك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين، نعرفه بتكفئه إذا مشى‏.‏ قال‏:‏ ففرحنا حتى كأنا لم يصبنا ما أصابنا‏.‏ قال‏:‏ فرقي نحونا وهو يقول‏:‏ ‏(‏اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم‏)‏‏.‏ وقال كعب بن مالك‏:‏ أنا كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين؛ عرفته بعينيه من تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي‏:‏ يا معشر المسلمين‏!‏ ابشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل‏.‏ فأشار إليّ أن اسكت‏.‏

 الآية رقم ‏(‏153‏)‏

‏{‏إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون‏}‏

قوله‏{‏إذ‏{‏ متعلق بقوله‏{‏ولقد عفا عنكم‏{‏‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏تصعدون‏{‏ بضم التاء وكسر العين‏.‏ وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبدالرحمن السلمي والحسن وقتادة بفتح التاء والعين، يعني تصعدون الجبل‏.‏ وقرأ ابن محيصن وشبل ‏{‏إذ يصعدون ولا يلوون‏{‏ بالياء فيهما‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏تَلُون‏{‏ بواو واحدة‏.‏ وروى أبو بكر بن عياش عن عاصم ‏{‏ولا تلوون‏{‏ بضم التاء؛ وهي لغة شاذة ذكرها النحاس‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره‏.‏ فالإصعاد‏:‏ السير في مستو من الأرض وبطون الأودية والشعاب‏.‏ والصعود‏:‏ الارتفاع على الجبال والسطوح والسلاليم والدرج‏.‏ فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي؛ فيصح المعنى على قراءة ‏{‏تُصْعِدون‏{‏ و‏{‏تَصْعَدون‏{‏‏.‏ قال قتادة والربيع‏:‏ أصعدوا يوم أحد في الوادي‏.‏ وقراءة أبي ‏{‏إذ تصعدون في الوادي‏{‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ صعدوا في أحد فرارا‏.‏ فكلتا القراءتين صواب؛ كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال القتبي والمبرد‏:‏ أصعد إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه؛ فكأن الإصعاد إبعاد في الأرض كإبعاد الارتفاع؛ قال الشاعر‏:‏

ألا أيهذا السائلي أين أصعدت فإن لها من بطن يثرب موعدا

وقال الفراء‏:‏ الإصعاد الابتداء في السفر، والانحدار الرجوع منه؛ يقال‏:‏ أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر، وانحدرنا إذا رجعنا‏.‏ وأنشد أبو عبيدة‏:‏

قد كنت تبكين على الإصعاد فاليوم سُرِّحْتِ وصاح الحادي

وقال المفضل‏:‏ صِعِد وأصْعَد وصَعَّد بمعنى واحد‏.‏ ومعنى ‏{‏تلوون‏{‏ تعرجون وتقيمون، أي لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا؛ فإن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته‏.‏ ‏{‏على أحد‏{‏ يريد محمدا صلى الله عليه وسلم؛ قاله الكلبي‏.‏ ‏{‏والرسول يدعوكم في أخراكم‏{‏ أي في آخركم؛ يقال‏:‏ جاء فلان في آخر الناس وأخرة الناس وأخرى الناس وأخريات الناس‏.‏ وفي البخاري ‏{‏أُخْراكُم‏{‏ تأنيث آخركم‏:‏ حدثنا عمرو بن خالد حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق قال‏:‏ سمعت البراء بن عازب قال‏:‏ جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبدالله بن جبير وأقبلوا منهزمين فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم‏.‏ ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلا‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أي عباد الله ارجعوا‏)‏ وكان دعاءه تغييرا للمنكر، ومحال أن يرى عليه السلام المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه‏.‏

قلت‏:‏ هذا على أن يكون الانهزام معصية وليس كذلك، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأثابكم غما بغم‏{‏ الغم في اللغة‏:‏ التغطية‏.‏ غممت الشيء غطيته‏.‏ ويوم غم وليلة غمة إذا كانا مظلمين‏.‏ ومنه غم الهلال إذا لم ير، وغمني الأمر يغمني‏.‏ قال مجاهد وقتادة وغيرهما‏:‏ الغم الأول القتل والجراح، والغم الثاني الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ صاح به الشيطان‏.‏ وقيل‏:‏ الغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والثاني ما أصابهم من القتل والهزيمة‏.‏ وقيل‏:‏ الغم الأول الهزيمة، والثاني إشراف أبي وسفيان وخالد عليهم في الجبل؛ فلما نظر إليهم المسلمون غمهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم؛ فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا يعلن علينا‏)‏ كما تقّدم‏.‏ والباء في ‏{‏بغم‏{‏ على هذا بمعنى على‏.‏ وقيل‏:‏ هي على بابها، والمعنى أنهم غموا النبّي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم إياه، فأثابهم بذلك غمهم بمن أصيب منهم‏.‏ وقال الحسن‏{‏فأثابكم غما‏{‏ يوم أحد ‏{‏بغم‏{‏ يوم بدر للمشركين‏.‏ وسمي الغم ثوابا كما سمي جزاء الذنب ذنبا‏.‏ وقيل‏:‏ وقفهم الله على ذنبهم فشغلوا بذلك عما أصابهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون‏{‏ اللام متعلقة بقوله‏{‏ولقد عفا عنكم‏{‏ وقيل‏:‏ هي متعلقة بقوله‏{‏فأثابكم غما بغم‏{‏ أي كان هذا الغم بعد الغم لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة، ولا ما أصابكم من الهزيمة‏.‏ والأول أحسن‏.‏ و‏{‏ما‏{‏ في قوله ‏{‏ما أصابكم‏{‏ في موضع خفض‏.‏ وقيل‏{‏لا‏{‏ صلة‏.‏ أي لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم على مخالفتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهو مثل قوله‏{‏ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك‏}‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ أي أن تسجد‏.‏ وقوله ‏{‏لئلا يعلم أهل الكتاب‏}‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ أي ليعلم، وهذا قول المفضل‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بقوله ‏{‏فأثابكم غما بغم‏{‏ أي توالت عليكم الغموم، لكيلا تشتغلوا بعد هذا بالغنائم‏.‏ ‏{‏والله خبير بما تعملون‏{‏ فيه معنى التحذير والوعيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏154‏)‏

‏{‏ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا‏{‏ الأمنة والأمن سواء‏.‏ وقيل‏:‏ الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف، والأمن مع عدمه‏.‏ وهي منصوبة بـ ‏{‏أنزل‏{‏، و‏{‏نعاسا‏{‏ بدل منها‏.‏ وقيل‏:‏ نصب على المفعول له؛ كأنه قال‏:‏ أنزل عليكم للأمنة نعاسا‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏أمْنَة‏{‏ بسكون الميم‏.‏ تفضل الله تعالى على المؤمنين بعد هذه الغموم في يوم أحد بالنعاس حتى نام أكثرهم؛ وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام‏.‏‏"‏روى البخاري عن أنس أن أبا طلحة قال‏:‏ غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال‏:‏ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه‏.‏ ‏{‏يغشى‏{‏ قرئ بالياء والتاء‏.‏ الياء للنعاس، والتاء للأمنة‏.‏ والطائفة تطلق على الواحد والجماعة ‏{‏وطائفة قد أهمتهم أنفسهم‏{‏ يعني المنافقين‏:‏ معتب بن قشير وأصحابه، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة وخوف المؤمنين فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور، ويقولون الأقاويل‏.‏ ومعنى ‏{‏قد أهمتهم أنفسهم‏{‏ حملتهم على الهم، والهم ما هممت به؛ يقال‏:‏ أهمني الشيء أي كان من همي‏.‏ وأمر مهم‏:‏ شديد‏.‏ وأهمني الأمر‏:‏ أقلقني‏:‏ وهمني‏:‏ أذابني‏.‏ والواو في قوله ‏{‏وطائفة‏{‏ واو الحال بمعنى إذ، أي إذ طائفة يظنون أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم باطل، وأنه لا ينصر‏.‏ ‏{‏ظن الجاهلية‏{‏ أي ظن أهل الجاهلية، فحذف‏.‏ ‏{‏يقولون هل لنا من الأمر من شيء‏{‏ لفظه استفهام ومعناه الجحد، أي ما لنا شيء من الأمر، أي من أمر الخروج، وإنما خرجنا كرها؛ يدل عليه قوله تعالى إخبارا عنهم‏{‏لو كان لنا من الأمر شيء ما قلنا ها هنا‏{‏‏.‏ قال الزبير‏:‏ أرسل علينا النوم ذلك اليوم، وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول‏:‏ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى يقول ليس لنا من الظفر الذي وعدنا به محمد شيء‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل إن الأمر كله لله‏{‏ قرأ أبو عمرو ويعقوب ‏{‏كله‏{‏ بالرفع على الابتداء، وخبره ‏{‏لله‏{‏، والجملة خبر ‏{‏إن‏{‏‏.‏ وهو كقوله‏{‏ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة‏}‏الزمر‏:‏ 60‏]‏‏.‏ والباقون بالنصب؛ كما تقول‏:‏ إن الأمر أجمع لله‏.‏ فهو توكيد، وهو بمعنى أجمع في الإحاطة والعموم، وأجمع لا يكون إلا توكيدا‏.‏ وقيل‏:‏ نعت للأمر‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ بدل؛ أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء‏.‏ وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله ‏{‏يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية‏{‏ يعني التكذيب بالقدر‏.‏ وذلك أنهم تكلموا فيه، فقال الله تعالى‏{‏قل إن الأمر كله لله‏{‏ يعني القدر خيره وشره من الله‏.‏ ‏{‏يخفون في أنفسهم‏{‏ أي من الشرك والكفر والتكذيب‏.‏ ‏{‏ما لا يبدون لك‏{‏ يظهرون لك‏.‏ ‏{‏يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا‏{‏ أي ما قتل عشائرنا‏.‏ فقيل‏:‏ إن المنافقين قالوا لو كان لنا عقل ما خرجنا إلى قتال أهل مكة، ولما قتل رؤساؤنا‏.‏ فرد الله عليهم فقال‏{‏قل لو كنتم في بيوتكم لبرز‏{‏ أي لخرج‏.‏ ‏{‏الذين كتب‏{‏ أي فرض‏.‏ ‏{‏عليهم القتل‏{‏ يعني في اللوح المحفوظ‏.‏ ‏{‏إلى مضاجعهم‏{‏ أي مصارعهم‏.‏ وقيل‏{‏كتب عليهم القتل‏{‏ أي فرض عليهم القتال، فعبر عنه بالقتل؛ لأنه قد يؤول إليه‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏لبرز‏{‏ بضم الباء وشد الراء؛ بمعنى يُجعل يَخرج‏.‏ وقيل‏:‏ لو تخلفتم أيها المنافقون لبرزتم إلى موطن آخر غيره تصرعون فيه حتى يبتلي الله ما في الصدور ويظهره للمؤمنين‏.‏ والواو في قوله ‏{‏وليبتلي‏{‏ مقحمة كقوله‏{‏وليكون من الموقنين‏}‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏ أي ليكون، وحذف الفعل الذي مع لام كي‏.‏ والتقدير ‏{‏وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم‏{‏ فرض الله عليكم القتال والحرب ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏ليبتلي‏{‏ ليعاملكم معاملة المختبر‏.‏ وقيل‏:‏ ليقع منكم مشاهدة ما علمه غيبا‏.‏ وقيل‏:‏ هو على حذف مضاف، والتقدير ليبتلي أولياء الله تعالى‏.‏ وقد تقّدم معنى التمحيص‏.‏ ‏{‏والله عليم بذات الصدور‏{‏ أي ما فيها من خير وشر‏.‏ وقيل‏:‏ ذات الصدور هي الصدور؛ لأن ذات الشيء نفسه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏155‏)‏

‏{‏إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا‏{‏ هذه الجملة هي خبر ‏{‏إن الذين تولوا‏{‏‏.‏ والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد؛ عن عمر رضي الله عنه وغيره‏.‏ السدي‏:‏ يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل‏.‏ وقيل‏:‏ هي في قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا‏.‏ ومعنى ‏{‏استزلهم الشيطان‏{‏ استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا‏.‏ وهو معنى ‏{‏ببعض ما كسبوا‏{‏ وقيل‏{‏استزلهم‏{‏ حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة‏.‏ وقيل‏:‏ زل وأزل بمعنى واحد‏.‏ ثم قيل‏:‏ كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة، فإنما تولوا لهذا، وهذا على القول الأول‏.‏ وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة‏.‏ وقال الحسن‏{‏ما كسبوا‏{‏ قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ زين لهم الشيطان أعمالهم‏.‏ وقيل‏:‏ لم يكن الانهزام معصية؛ لأنهم أرادوا التحصن بالمدينة، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل‏.‏ ويجوز أن يقال‏:‏ لم يسمعوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للهول الذي كانوا فيه‏.‏ ويجوز أن يقال‏:‏ زاد عدد العدو على الضعف؛ لأنهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف‏.‏ وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ لا يجوز، ولعلهم توهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم انحاز إلى الجبل أيضا‏.‏ وأحسنها الأول‏.‏ وعلى الجملة فإن حمل الأمر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على القدر المسوغ‏.‏ وذكر أبو الليث السمرقندي نصر بن محمد بن إبراهيم قال‏:‏ حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو بكر بن غيلان عن جرير‏:‏ أن عثمان كان بينه وبين عبدالرحمن بن عوف كلام، فقال له عبدالرحمن بن عوف‏:‏ أتسبني وقد شهدت بدرا ولم تشهد، وقد بايعت تحت شجرة ولم تبايع، وقد كنت تولى مع من تولى يوم الجمع، يعني يوم أحد‏.‏ فرد عليه عثمان فقال‏:‏ أما قولك‏:‏ أنا شهدت بدرا ولم تشهد، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة وكنت معها أمرضها، فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهما في سهام المسلمين، وأما بيعة الشجرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني ربيئة على المشركين بمكة - الربيئة هو الناظر - فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه على شماله فقال‏:‏ ‏(‏هذه لعثمان‏)‏ فيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وشماله خير لي من يميني وشمالي‏.‏ وأما يوم الجمع فقال الله تعالى‏{‏ولقد عفا الله عنهم‏{‏ فكنت فيمن عفا الله عنهم‏.‏ فحج عثمان عبدالرحمن‏.‏

قلت‏:‏ وهذا المعنى صحيح أيضا عن ابن عمر، كما في صحيح البخاري قال‏:‏ حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال‏:‏ جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال‏:‏ من هؤلاء القعود‏؟‏ قالوا‏:‏ هؤلاء قريش‏.‏ قال‏:‏ من الشيخ ‏؟‏ قالوا‏:‏ ابن عمر؛ فأتاه فقال‏:‏ إني سائلك عن شيء أتحدثني‏؟‏ قال‏:‏ أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ فكبر‏.‏ قال ابن عمر‏:‏ تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه؛ أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه‏.‏ وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه‏)‏‏.‏ وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى‏:‏ ‏(‏هذه يد عثمان‏)‏ فضرب بها على يده فقال‏:‏ ‏(‏هذه لعثمان‏)‏‏.‏ اذهب بهذا الآن معك‏.‏

قلت‏:‏ ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام‏.‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فحج آدم موسى‏)‏ أي غلبه بالحجة؛ وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة؛ فقال له آدم‏:‏ ‏(‏أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له لا يتوجه عليه لوم‏)‏‏.‏ وكذلك من عفا الله عنه‏.‏ وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك، وخبره صدق‏.‏ وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم إذ لا علم لهم بذلك‏.‏ فاعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏156‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا‏{‏ يعني المنافقين‏.‏ ‏{‏وقالوا لإخوانهم‏{‏ يعني في النفاق أو في النسب في السرايا التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى بئر معونة‏.‏ ‏{‏لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا‏{‏ فنهي المسلمون أن يقولوا مثل قولهم‏.‏ وقوله‏{‏إذا ضربوا‏{‏ هو لما مضى؛ أي إذ ضربوا؛ لأن في الكلام معنى الشرط من حيث كان ‏{‏الذين‏{‏ مبهما غير موقت، فوقع ‏{‏إذا‏{‏ موقع ‏{‏إذ‏{‏ كما يقع الماضي في الجزاء موضع المستقبل‏.‏ ومعنى ‏{‏ضربوا في الأرض‏{‏ سافروا فيها وساروا لتجارة أو غيرها فماتوا‏.‏ ‏{‏أو كانوا غزى‏{‏ غزاة فقتلوا‏.‏ والغُزَّى جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض، وأحدهم غاز، كراكع وركع، وصائم وصوم، ونائم ونوم، وشاهد وشهد، وغائب وغيب‏.‏ ويجوز في الجمع غزاة مثل قضاة، وغزاء بالمد مثل ضراب وصوام‏.‏ ويقال‏:‏ غَزِيّ جمع الغَزَاة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

قل للقوافل والغزي إذا غزوا

وروي عن الزهري أنه قرأه ‏{‏غزى‏{‏ بالتخفيف‏.‏ والمعزية المرأة التي غرا زوجها‏.‏ وأتان مغزية متأخرة النتاج ثم تنتج‏.‏ وأغزت الناقة إذا عسر لقاحها‏.‏ والغزو قصد الشيء‏.‏ والمغزى المقصد‏.‏ ويقال في النسب إلى الغزو‏:‏ غَزَوِيُّ‏.‏

قوله تعالى‏{‏ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم‏{‏ يعني ظنهم وقولهم‏.‏ واللام متعلقة بقوله ‏{‏قالوا‏{‏ أي ليجعل ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا‏.‏ ‏{‏حسرة‏{‏ أي ندامة ‏{‏في قلوبهم‏{‏‏.‏ والحسرة الاهتمام على فائت لم يقدر بلوغه؛ قال الشاعر‏:‏

فواحسرتي لم أقض منها لبانتي ولم أتمتع بالجوار وبالقرب

وقيل‏:‏ هي متعلقة بمحذوف‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تكونوا مثلهم ‏{‏ليجعل الله ذلك‏{‏ القول ‏{‏حسرة في قلوبهم‏{‏ لأنهم ظهر نفاقهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تصدقوهم ولا تلتفتوا إليهم؛ فكان ذلك حسرة في قلوبهم‏.‏ وقيل‏{‏ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم‏{‏ يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله يحي ويميت‏{‏ أي يقدر على أن يحيي من يخرج إلى القتال، ويميت من أقام في أهله‏.‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏{‏ قرئ بالياء والتاء‏.‏ ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيل الله والموت فيه خير من جميع الدنيا‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏157 ‏:‏ 158‏)‏

‏{‏ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون، ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون‏}‏

جواب الجزاء محذوف، استغني عنه بجواب القسم في قوله‏{‏لمغفرة من الله ورحمة‏{‏ وكان الاستغناء بجواب القسم أولى؛ لأن له صدر الكلام، ومعناه ليغفرن لكم‏.‏ وأهل الحجاز يقولون‏:‏ متم، بكسر الميم مثل نمتم، من مات يمات مثل خفت يخاف‏.‏ وسفلى مضر يقولون‏:‏ متم، بضم الميم مثل نمتم، من مات يموت‏.‏ كقولك كان يكون، وقال يقول‏.‏ هذا قول الكوفيين وهو حسن‏.‏ وقوله‏{‏لإلى الله تحشرون‏{‏ وعظ‏.‏ وعظهم الله بهذا القول، أي لا تفروا من القتال ومما أمركم به، بل فروا من عقابه وأليم عذابه، فإن مردكم إليه لا يملك لكم أحد ضرا ولا نفعا غيره‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏159‏)‏

‏{‏فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين‏}‏

قوله‏{‏ما‏{‏ صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة؛ كقوله‏{‏عما قليل‏}‏المؤمنون‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏النساء‏:‏ 155‏]‏ ‏{‏جند ما هنالك مهزوم‏}‏ص‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها‏.‏‏.‏ ابن كيسان‏{‏ما‏{‏ نكرة في موضع جر بالباء ‏{‏ورحمة‏{‏ بدل منها‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه‏.‏ وقيل‏{‏ما‏{‏ استفهام‏.‏ والمعنى‏:‏ فبأي رحمة من الله لنت لهم؛ فهو تعجيب‏.‏ وفيه بعد؛ لأنه لو كان كذلك لكان ‏{‏فبم‏{‏ بغير ألف‏.‏ ‏{‏لنت‏{‏ من لان يلين لينا وليانا بالفتح‏.‏ والفظ الغليظ الجافي‏.‏ فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ‏.‏ والأنثى فظة والجمع أفظاظ‏.‏ وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق؛ وأنشد المفضل في المذكر‏:‏

وليس بفظ في الأداني والأولى يؤمون جدواه ولكنه سهل

وفظ على أعدائه يحذرونه فسطوته حتف ونائله جزل

وقال آخر في المؤنث‏:‏

أموت من الضر في منزلي وغيري يموت من الكظه

ودنيا تجود على الجاهلين وهي على ذي النهى فظه

وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

يبكى علينا ولا نبكي على أحد‏؟‏ لنحن أغلظ أكبادا من الإبل

ومعنى ‏{‏لانفضوا‏{‏ لتفرقوا؛ فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا؛ ومن ذلك قول أبي النجم يصف إبلا‏:‏

مستعجلات القيض غير جرد ينفض عنهن الحصى بالصمد

وأصل الفض الكسر؛ ومنه قولهم‏:‏ لا يفضض الله فاك‏.‏ والمعنى‏:‏ يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم‏.‏

في قوله تعالى‏{‏فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر‏{‏ قال العلماء‏:‏ أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ؛ وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة؛ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور‏.‏ قال أهل اللغة‏:‏ الاستشارة مأخوذة من قول العرب‏:‏ شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره‏.‏ ويقال للموضع الذي تركض فيه‏:‏ مشوار‏.‏ وقد يكون من قولهم‏:‏ شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه، قال عدي بن زيد‏:‏

في سماع يأذن الشيخ له وحديث مثل ماذي مشار

قال ابن عطية‏:‏ والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب‏.‏ هذا ما لا خلاف فيه‏.‏ وقد مدح الله المؤمنين بقوله‏{‏وأمرهم شورى بينهم‏}‏الشورى‏:‏ 38‏]‏‏.‏ قال أعرابي‏:‏ ما غبنت قط حتى يغبن قومي؛ قيل‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها‏.‏ وكان يقال‏:‏ ما ندم من استشار‏.‏ وكان يقال‏:‏ من أعجب برأيه ضل‏.‏

قوله تعالى‏{‏وشاورهم في الأمر‏{‏ يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي؛ فإن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك‏.‏ واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه عليه السلام أن يشاور فيه أصحابه؛ فقالت طائفة‏:‏ ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه‏.‏ روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي‏.‏ قال الشافعي‏:‏ هو كقوله ‏(‏والبكر تستأمر‏)‏ تطيبا لقلبها؛ لا أنه واجب‏.‏ وقال مقاتل وقتادة والربيع‏:‏ كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم‏:‏ فأمر الله تعالى؛ نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر‏:‏ فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم‏.‏ فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ذلك فيما لم يأته فيه وحي‏.‏ روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا‏:‏ ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده‏.‏ وفي قراءة ابن عباس‏{‏وشاورهم في بعض الأمر‏{‏ ولقد أحسن القائل‏:‏

شاور صديقك في الخفي المشكل واقبل نصيحة ناصح متفضل

فالله قد أوصى بذاك نبيه في قوله‏:‏ ‏(‏شاورهم‏)‏و ‏(‏توكل‏)‏

جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المستشار مؤتمن‏)‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل‏.‏ قال الحسن‏:‏ ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله‏.‏ فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه؛ قاله الخطابي وغيره‏.‏

وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير‏.‏ قال‏:‏

شاور صديقك في الخفي المشكل

وقد تقدم‏.‏ وقال آخر‏:‏

وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيبا ولا تعصه

في أبيات‏.‏ والشورى بركة‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏ما ندم من استشار ولا خاب من استخار‏)‏‏.‏ وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي‏)‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا‏.‏ وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى‏.‏ قال البخاري‏:‏ وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى‏.‏ وقال الحسن‏:‏ والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم‏.‏ وروي عن علّي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم‏)‏‏.‏

والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب؛ وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإذا عزمت فتوكل على الله‏{‏ قال قتادة‏:‏ أمر الله تعالى نبيه عليه السلام إذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم‏.‏ والعزم هو الأمر المروى المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب؛ كما قال‏:‏

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا

ولم يستشر في رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا

وقال النقاش‏:‏ العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا خطأ؛ فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه‏.‏ والعزم قصد الإمضاء؛ والله تعالى يقول‏{‏وشاورهم في الأم فإذا عزمت ‏{‏‏.‏ فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم‏.‏ والعرب تقول‏:‏ قد أحزم لو أعزم‏.‏ وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد‏{‏فإذا عزمت‏{‏ بضم التاء‏.‏ نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه؛ كما قال‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏‏.‏ ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك ‏{‏فتوكل على الله‏{‏‏.‏ والباقون بفتح التاء‏.‏ قال المهلب‏:‏ وامتثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ربه فقال‏:‏ ‏(‏لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله‏)‏‏.‏ أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة‏.‏ فلبسه لأمته صلى الله عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر‏:‏ يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا؛ دال على العزيمة‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم أشار بالقعود، وكذلك عبدالله بن أبي أشار بذلك وقال‏:‏ أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فوالله ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا‏.‏ وأبى هذا الرأي من ذكرنا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب‏.‏ فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا‏:‏ أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا‏:‏ يا رسول الله، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين‏{‏ التوكل‏:‏ الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التكلان‏.‏ يقال منه‏:‏ اتكلت عليه في أمري، وأصله‏{‏أو تكلت‏{‏ قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال‏.‏ ويقال‏:‏ وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها‏.‏

واختلف العلماء في التوكل؛ فقالت طائفة من المتصوفة‏:‏ لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى‏.‏ وقال عامة الفقهاء‏:‏ ما تقدم ذكره عند قوله تعالى‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏‏.‏ وهو الصحيح كما بيناه‏.‏ وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله ‏{‏لا تخافا‏{‏‏.‏ وقال‏{‏فأوجس في نفسه خيفة موسى 0 قلنا لا تخف‏}‏طه‏:‏ 67 - 68‏]‏‏.‏ وأخبر عن إبراهيم بقوله‏{‏فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف‏}‏هود‏:‏ 70‏]‏‏.‏ فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا - وحسبك بهما - فغيرهما أولى‏.‏ وسيأتي بيان هذا المعنى‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏160‏)‏

‏{‏إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن ينصركم الله فلا غالب لكم‏{‏ أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تغلبوا‏.‏ ‏{‏وإن يخذلكم‏{‏ يترككم من معونته‏.‏ ‏{‏فمن ذا الذي ينصركم من بعده‏{‏ أي لا ينصركم أحد من بعده، أي من بعد خذلانه إياكم؛ لأنه قال‏{‏وإن يخذلكم‏{‏ والخذلان ترك العون‏.‏ والمخذول‏:‏ المتروك لا يعبأ به‏.‏ وخذلت الوحشية أقامت على ولدها في المرعى وتركت صواحباتها؛ فهي خذول‏.‏ قال طرفة‏:‏

خذول تراعي ربوبا بخميلة تناول أطراف البرير وترتدي

وقال أيضا‏:‏

نظرت إليك بعين جارية خذلت صواحبها على طفل

وقيل‏:‏ هذا من المقلوب؛ لأنها هي المخذولة إذا تركت‏.‏ وتخاذلت رجلاه إذا ضعفتا‏.‏ قال‏:‏ وخذول الرجل من غير كسح ورجل خذلة للذي لا يزال يخذل‏.‏ والله أعلم‏.‏